|
|
||||||||||
ملتقى الأدب للقصة القصيرة والقصيدة باللغتين الفصحى والنبطي . |
|
أدوات الموضوع |
16-06-2017, 09:23 AM | #1 | |||
( عضو دائم ولديه حصانه )
[ نفس منفوسه ]
|
مقامة : لصوص رمضان
حدثنا أبو النوادر السوسي قال: تصرّمت سراعا أيام رجب, و صامه الأخيار و ما وجب, ثم أدركني شعبان, و أنا رَيّان شبعان, فأزمعت صيامه, و إن استطلت أيامه, فكان أسرع من سابقه, كأنما يستحث مقدم لاحقه, و كلما هممت بتبييت النية, و اغتنام العمر قبل نزول المنية, قطعتني عن الصوم القواطع, و صرفتني عنه الصوارف, من ضيف عزيز نازل, أو سفر نأى بي عن المنازل, حتى بقيت من كأس شعبان فُضلة استقللتُها, فأصبحت يوما ممسكا, ولمسالك البر سالكا, و ما إن حلّ الضحى, حتى خِلت أن الشمس قد دنت و تدلّت, و سئمت موطنها و ملّت, و ضاقت برفقة النجوم فاعتزلتها, و اشتاقت إلى صحبة الأرض فنزلتها, فبينا أنا أجر رجليّ, و أجرجر على الأرض نعليّ, مُنصرفي من الظهر إلى الدكان, إذ غردت في جيبي رنّة الجوال, فإذا موسرٌ يسألني عن الأحوال, و يستحثني أن آتيه في الحال, و أخبرني أن في المجلس مَن فيه, ممن يسترزق مِن فيه, و أنه أرصد له متكلما طالت غيبته, و سوف تسرني أوبته, فتاقت نفسي لاستجلاء الأمر و اشتاقت, و مشيت قدر ما بين الأذان و الإقامة, إلى بيته الفاره حيث تحلو الإقامة, فلما وقفت ببابه, و أشرفت على رحابه, استقبلتني رائحة الشواء, و نسائم الحلواء, حتى ظننت أني أفطرت من تنشق الهواء, وشرعت نفسي تملي علي الأخبار و الآثار و القصص, في سماحة الشريعة و ما حوته من رخص, و أتحفتني بفوائد حديث تقديم العَشاء على العِشاء , فخاطبتها: يا أيتها الأمّارة المكّارة: ما أعلمك بالفقه عند الجوع, و أبشرك أني أزمعت الرجوع, فنازعتني في الافطار وأوزعتني, و ما إن استدبرت الباب و استقبلت الطريق اللاحب, حتى ناداني الصاحب, و قادني إلى بهو فسيح صُفت فيه الموائد, وفيه رجال متأنقون بأيديهم الجرائد, فقال كبيرهم: "يا نُخبة الإخوان, و صَفوة الخلان, ذوي العلائق النافعة, و المعارف الواسعة, في ميدان السلطة الرابعة, و الإعلام المرئي و المسموع, قد أظلّنا رمضان و لنا فيه منافع, فجِدّوا كدأْبكم في تجفيف المنابع, و سدوا منافذ الغلوّ, و صدوا الغلاة عن العلوّ, و أكثروا قبيل حلوله الحديث عن وفرة السلع, و بشروا بكثرة اللذائذ و المتع, وحركوا الأشواق إلى ارتياد الأسواق, و راكموا البرامج عن الأسقام و الأوجاع, و أمطروا بها الأبصار والأسماع, و ألحوا في التحذير من الإجهاد و الجفاف, و خَوِّفوا العامة من الصيام بالإرجاف, و تخيروا لذلك الأطباء الألباء, فإن صاموا فاشغلوهم بالرياضة و الملاهي, و سهرات المعازف في الشاشات و المقاهي, و سلسلوهم عند الإفطار بأفانين التهريج, و أفسدوا عقولهم وقلوبهم بأساليب التهييج, حتى إذا نادى منادي الفلاح, لم يزهدوا في لهو الليالي الملاح, و نغِّصوا عليهم ليالي رمضان على كل تردّد, حتى ينسوا أنما أمروا أن يعمروها بالتهجّد, و نحن إنما نحارب التزمت و الظلامية, و ننصر الانفتاح بمنابرنا الإعلامية, و ندعو للتوحيد: توحيد الأديان, و نجدُّ في تلميع صورة الإسلام, ببدائع المسرحيات والأفلام, و نغازل المجتمع الدولي حتى يرضى, و نُغْضي من أمر التدين عما أغضى, و نتودد إليه تودد المحبين, و نتزلف إليه تزلف العاشقين, و قد دعونا اليوم في ندوتنا الاستعراضية, خطيبا وسطيا أمريكا عنه راضية, من دعاة الإسلام الجديد, و أهل الفقه والتجديد, ممن يحلّ المعضلات الآنية, بالفتاوى العقلانية." و ما فتئ جرس الباب أن رنّ, فتطلع الحضور إلى مطلع بدر الاجتهاد, و اشْرأبّت إليه يدخل على رؤوس الأشهاد, وشهر حماة الإعلام الأقلام, يترقبون فيض الوسطية و الاعتدال, فإذا شيخ وقور جلّله الشيب, و التف في برنس حالكٍ قشيب, يحرك بأنامل يمناه حبات سبحة صفراء, و ما ينفك يعدل بيسراه عمامته الخضراء, و لما جلس جيء بالشاي "منعنعا", و روى الشيخ حديثا معنعنا, في فضل شهر الفرقان و فضائله, وحذر من الشيطان و حبائله, ثم قال: " أيا معشر العقلاء, إياكم و سبل من آمن بلسانه, و فجر واستكبر بجنانه, و تسمى بأسماء المسلمين, و سلك سبيل المجرمين, و جرّد لحرب الملة البيضاء لسانيه, و امتطى مراكب الزور, و اهتدى بالكذب إلى الفجور, فحذار حذار من شياطين الأناسي, و تنبه لما يكيدون أيها الناسي, فإنهم يتلونون في اليوم ألف مرة, و يدعونك إلى ملة أبي مُرة, و يخلعون عليها الأسماء الرنانة, و يتنكرون خلف الألقاب الطنانة, فهم أهل الثقافة و الحصافة, و أرباب القلم و الصحافة, و أولو العقول والأفهام, و صناديد الفن و الإعلام, فاللهَ اللهَ لا يخدعنّكم الشيطان و سفراؤه, و لا يستفزنكم الرجيم و أجراؤه, فقد نصبوا في طريق الصائمين المتاريس, و كمنوا لهم كُمون الأباليس, فيا من تُمنّون النفس بالريّان وولوجه, أعرضوا عن أحلاس الباطل و سروجه, و ذودوا عن رمضانكم و نفحاته, بالإعراض عن التلفاز و لفحاته, إنما هو لهو و لغو, و خيال و خبال, و شِراك و حبال, و سلاسل و أغلال, و رفس و رقص, و نباح و عواء, و كذب و مراء, و تصنع و رياء, و فحش و بذاء, و إجرام و دماء, هو جماع الشرور و مُذهب السرور, و مفرق الأحباب, و ماحق الألباب, فهلا اعتبرتم يا أولي النهى, رحم الله امرءا اتعظ وانتهى." و لمّا أن فرغ الواعظ من وعظه, ابتدره رجل على محياه ابتسامة الشامت, و في جيده سلسلة من الصامت, فقال: " مَهْ يا شُويخ, قد أزريت بأهل الفن و الإعلام أجمعين, و لو أنصفت لما هجوت صفوة السامعين, و فيهم زبدة المجتمع المدني, ففيم وصفتهم بكل وصف دني؟ ههنا أقطاب الإذاعة و الفن و البراعة, لكن لعلك قصدت الفن الساقط, والإعلام الهابط, فليتك تستدرك ما فات, بعدما حذرت من المزالق و الآفات, لتحدثنا عن الفن الهادف و فضله, وتثني على صفاء معدنه و نبل أصله." و لما تأملت الشيخ و تبينته, استيقنت أنه أبو حُميد رَحَّال, قد حط بين علية القوم الرحال, و رأيته قام و نزع عمامته, و عمد إلى المستفسر فوضعها على هامته, وقال: " بل أنت تجيب أيها السائل عن تلك المسائل, فهلا أخبرتنا عن الفرقان بين الفن و العفن, وعن لفظه وحروفه, أعينُ الفن قذارة و نجس؟ أم أنها ماء فراتٌ من المجاري انبجس؟ وهل رمضان مصيبة نازلة, حتى تسليّنا عنها البرامج الهازلة؟" و جلس رحال عند قدمي الفنان المعمم, جلسة الطالب بين يدي المعلم, فأطرق المسؤول هنيهة, و أدار بصره في الجمع, فما منهم إلا من أصاخ السمع, يترقب خاتمة هذا المشهد الكوميدي, ويصور بالجوال محامي الفن وإمامه, ورأسه الصغيرة تنوء تحت العمامة, فقال بعدما نظر وتفكر: " الفن الهادف ذو رسالة, فسأله رحال: أوَ تشهد له الرسالة؟ وهل يجوز تكبيل المسلمين بالسلاسل و صدُّهم عن الفرائض والنوافل؟ أولا يخشى من ابتدع السلسلة, أن يُسلك يوم القيامة في سلسلة؟" ألقى المسكين العمامة و صرخ في الحضور واستصرخ: " أما منكم لبيب يتصرّف, وهو يرى هذا الشويخ يتطرّف, أوَ لم تقولوا إنكم ظفرتم بشيخ معتدل, و أستاذ وسطي متكلم معتزل؟" فلم يدر صاحب الوليمة ما يصنع, أو لعله إنما كان يتصنع, و لم يقطع دابر الهرج, ويحسم مادة الحرج, إلا مَقدم الحُملان المشوية, تجللها سحائب الدخان كالألوية, فذابت لمرآها الفوارق, وأنشبت فيها الأنامل الخوارق, و كانت لرحال بن المحجوب صولات و جولات, و استأثر لنفسه بالذراع, و كان في جلسائه صاحب الشراع, يقلب الخروف ظهرا لبطن, ويدل جيرانه على جيد اللحم و مكامنه, وعن مناجم الدهن و مظانه, فشغلني النظر إليه عما أنا فيه, و عن المبادرة إلى الإفطار أو تلافيه, ثم قام مسرعا فاقتفيت أثره, ولحقت به أستقصي خبره, فلما تجاوز الحي الباذخ واجتاز, صَفَر صفيرا أقبل على إثره الهزهاز, فأتحفه بعظم أخفاه في كمه, ثم نزع الجلابية و العمامة الخضراوين, و غسل رأسه و لحيته البيضاوين, فإذا هو كعهدي به شابٌّ ما شاب, لكنها عُدة الاحتيال و مصائدُه, و ذرائع المكر و قصائدُه, و حين استجليته الأمر أجابني: "لقيت بالمحطة رجلا استرشدني الطريق, فإذا هو أستاذ متكلم مغرم بفلسفة الإغريق, فشممت من بعيد ريح وليمة, و استفسرني عن عنوان رجل الأعمال أبي حليمة, الذي سيأتيه اليوم فنانون وإعلاميون, و أشباههم ممن هم في الدين أميون, و أخبرني ذلك الساذج المفتون, أنهم مسترشدون مستفتون, عن سبيل نشر ثقافة الاعتدال و الاعتزال, و مناهج التفنن في ذم التسنن, و قال: "...فانتخبني لهم من أحلني منه منزلة البؤبؤ من العين, و منزلة الرأس من الكتفين..." فلما أتم حديثه, قلت رزقني الله بصيد, و ظفر و الله عمرو بزيد, فأريته مني الموافقة, و اقترحت عليه المرافقة, ثم تلطفت به حتى أضللته, وأنا أريه أني أجللته, ثم أتيت صاحب الدعوة فكان بيننا ما كان, و اجتهدت يومي قدر الإمكان." فأجبته ضاحكا: " نعم, إنه يوم التفريج عمن أضناه أهل التهريج, و يوم اللحم النضيج بعد المراء والضجيج." قال رحال مبتسما: " قد أتاك خبر الكتف المنفك, و نهاية الحمل المندك, و شهدتَ ادخار الشحم الذائب, واغتنام وفرته ترقبا للنوائب, فإنما يأكل مثلي اللحم خِلسة, ولا تطول لي معه الجَلسة, أما رأيت حال الهرّ, متى أصاب منه حظا كيف يفرّ؟ ولا تسلني لم خادعت الأستاذ وخاتلته, فإنما ارتكبت أخف الضررين, وتجشّمت أدنى المفسدتين, هو مضلّ يأوي إلى مسرفين, وشبعان يؤاكل مترفين, وللهزهاز عندي خير من ملء الأرض من الفنانين, فهو لا يكذب ولا يخادع ولا يتبع سبيل المفسدين, فهذا خبري يا أبا النوادر." نظرت إليه قائلا: "ليهنك الفقه يا أبا حُميد, يا من جمعت أطراف المسائل و لم تفتك فروع المآكل, وفارقته وأتممت صومي و احتسبت يومي." بقلم هشام بن الزبير المصدر: نفساني
|
|||
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|