المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة.

 


 
العودة   نفساني > المنتديات الإسلامية > الملتقى الإسلامي
 

الملتقى الإسلامي قال تعالى : (( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ))

العوامل المساعدة على حفظ القرآن

العوامل المساعدة على حفظ القرآن محمد أبو شهبة إن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أمرا هيأ له الأسباب، وهذا من رحمته بخلقه، فقد أوجب على الأمة الإسلامية حفظ

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 02-03-2015, 10:50 PM   #1
ازهرى وراقى
مشرف ملتقى الرقية الشرعية


الصورة الرمزية ازهرى وراقى
ازهرى وراقى غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 36778
 تاريخ التسجيل :  12 2011
 أخر زيارة : 23-02-2022 (04:21 PM)
 المشاركات : 6,240 [ + ]
 التقييم :  66
لوني المفضل : Cadetblue
العوامل المساعدة على حفظ القرآن



العوامل المساعدة على حفظ القرآن

محمد أبو شهبة

إن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أمرا هيأ له الأسباب، وهذا من رحمته بخلقه، فقد أوجب على الأمة الإسلامية حفظ القرآن، وجعل لهم من الدواعي والحوافز ما أعانهم على حفظه، ومداومة قراءته، وتلاوته فمن هذه العوامل:
.العامل الأول: التعبد بالقرآن الكريم في الصلاة وخارجها:

وقد اتفق الفقهاء قاطبة على أن الصلاة سواء أكانت فرضا أم نفلا جماعة، أو غيرها لا تصح إلا بالقرآن، ولا تصح بالأحاديث القدسية، ولا النبوية، ولا بالأذكار المأثورة، فالقراءة ركن في الصلاة، وهذا محل إجماع، إلا أن منهم من جعل قراءة الفاتحة ركنا لا تصح الصلاة إلا به وهم الأئمة مالك والشافعي، وأحمد في المشهور عنه.
ومنهم من لم يجعل الفاتحة ركنا، فالصلاة تصح بالفاتحة وغيرها، وهو الإمام أبو حنيفة وأصحابه، إلا أن الصلاة عندهم ناقصة الثواب غير كاملة؛ لأنهم جعلوا قراءة الفاتحة واجبا لا ركنا، فمن ترك قراءتها عمدا أساء، وعليه إعادتها، ومن تركها سهوا جبر بسجود السهو، ومن ذلك يتبين أن الواجب على كل مسلم ومسلمة أن يحفظ من القرآن ما يصحح به صلاته.
وأيضا فقد كان قيام الليل واجبا في صدر الإسلام على النبي، وقيل عليه وعلى أصحابه وعماد القيام بالصلاة ومن أركانها قراءة القرآن قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 1- 4] وكانوا مخيرين في هذا الوجوب بين الثلث أو النصف، أو الثلثين، وقد مكثوا على هذا عاما أو عامين، وقيل عشر سنين حتى كانت تنتفخ أقدام بعضهم من طول القيام فخفف الله عنهم، وصار مستحبا، ونسخ الفرضية بقوله سبحانه في آخر السورة: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20] وبذلك صار مستحبا مرغوبا فيه ووكل إلى كل ما يستطيعه من ساعاته.
وقد كان النبي والصحابة ملازمين للقيام وقراءة القرآن حتى بعد التخفيف ونسخ الفرضية حتى استحقوا الثناء من الله عز وجل قال سبحانه: {تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16- 17].
وقال سبحانه: {كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[الذاريات 17- 19].
وقد كان هذا القيام لونا من ألوان التربية الإسلامية حتى تصفو نفوسهم هم وتتبدل أخلاقهم، وتقوى عزائمهم وتتربى فيهم ملكات الصبر، والتحمل، وعدم الخضوع لأهواء النفس وشهواتها، ويكونوا على استعداد للتضحية والكفاح في سبيل عقيدتهم ودينهم رضوان الله عليهم، فلا سهر في لهو، ولا في شرب خمر، ولا في متابعة للجواري والحسان ولا في قمار، ولا ميسر إلى غير ذلك من مباذل الجاهلية.
وإنما هو سهر في حب الله، وفي مدارسة كتاب الله، وفي الصلاة، والذكر، والدعاء، خلوات ما أحلاها من خلوات، وسمو بالأرواح إلى معارج القدس الأعلى.
فلا تعجب إذا كانوا كتب الله لهم النصر والعزة على قلتهم، وأن حملوا رسالة نبيهم فبلغوها إلى الدنيا كلها، وأنهم لم يمض عليهم نصف قرن من الزمان حتى دانت لهم فارس، والروم بل لم يمض قرن على الدعوة حتى بلغ الإسلام ما بلغ الليل والنهار.
وما ظنك برجال كان بعضهم يختم القرآن في ركعة يحيى بها ليله كذي النورين عثمان رضي الله عنه وتميم الداري، بل روي عن سليم بن عتر التجيبي أنه كان يقرأ القرآن في الليلة ثلاث مرات! وروي عن الإمام الشافعي أنه كان يختم في اليوم والليلة من شهر رمضان ختمتين، وفي غيره ختمة، وروي عن أبي عبد الله البخاري صاحب الصحيح أنه كان يختم القرآن في الليلة ويومها من رمضان إلى غير ذلك مما ذكر عن بعض السلف، وقد كان الإمام أبو حنيفة ممن يختم القرآن في ليلة، وذلك أنه مر على قوم، فسمعهم يقولون: هذا يختم القرآن في ليلة، فأبت عليه نفسه وأخلاقه إلا أن يكون كما يقولون فواظب على ذلك.

.العامل الثاني: الترغيب في قراءة القرآن وحفظه:

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى من الأحاديث في الترغيب في قراءة القرآن، وتلاوته كما ينبغي، وحفظه، والوصاية به.
فالقرآن الكريم أصدق الحديث وأحسنه، روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وإن أفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» رواه مسلم أيضا في صحيحه.
والقرآن أفضل الكلام وأشرفه، روى الحافظ أبو بكر البزار بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه» ورواه البيهقي في الأسماء والصفات.
والقرآن أحب إلى الله من كل شيء، روى الدارمي من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: «القرآن أحب إلى الله من السموات والأرض، ومن فيهن».
وأهل القرآن: هم أهل الله وخاصته، روى الإمام أحمد بسنده عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله أهلين من الناس» قيل: من هم يا رسول الله قال: «أهل القرآن، هم أهل الله وخاصته» وبحسبهم شرفا هذه النسبة إلى الله.
وأهل القرآن، وحفظته هم عرفاء الجنة؛ ففي الحديث الذي رواه الطبراني: «حملة القرآن عرفاء أهل الجنة».
وتعلم القرآن، وتعليمه يجعل صاحبه خير الناس وأفضلهم، روى الشيخان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» والاشتغال به خير من الاشتغال بصلاة النوافل، روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي ذر: «لأن تغدو فتتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة».
وقارئ القرآن مأجور على قراءته عمل به أو لم يعمل، فهم معناه أم لم يفهم، وإن كان من فهم وعمل أعظم أجرا، وأكثر ثوابا؛ روى الشيخان في صحيحيهما بسندهما عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن، ويعمل به كالأترجة طعمها طيب، وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن، ويعمل به، كالتمرة طعمها طيب، ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن، كالريحانة ريحها طيب، وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحنظلة طعمها مر أو خبيث، وريحها مر» وفي رواية أخرى «ولا ريح لها» وهي أصح من جهة المعنى.
والقرآن الكريم حبل ممدود بين السماء والأرض، يصل الإنسان الحافظ له، والعامل به بالله تعالى، روى ابن أبي شيبة من حديث أبي شريح الخزاعي: إن القرآن سبب طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبدا.
وروى ابن جرير مرفوعا: «إن هذا القرآن هو حبل الله الممدود من السماء والأرض».
وروى ابن مردويه بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن هو حبل الله المتين وهو النور المبين، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه» وفي حديث الترمذي الذي رواه عن الحارث الأعور، عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «... وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم».
والمشتغل بحفظ القرآن عن الذكر، وسؤال الله يعطيه الله أفضل مما يعطي السائلين: ففي الحديث الذي رواه الترمذي بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الرب عز وجل من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه».
وقراءة القرآن ومدارسته، تستنزل الملائكة، والسكينة، والرحمة، ففي حديث أسيد بن حضير: أنه قرأ سورة البقرة ذات ليلة، فاضطربت فرسه، فسكت، فسكنت، ثم قرأ فاضطربت، فسكت فسكنت.
فلما فرغ من قراءته رفع رأسه إلى السماء، فإذا هو بمثل الظلة فيها أمثال المصابيح، عرجت إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له: «تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت- أي استمررت في قراءتك- لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم» وفي حديث الصحابي الذي كان يقرأ سورة الكهف فتغشته مثل السحابة، فجعلت تدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فعجب من ذلك، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال: «تلك السكينة تنزلت للقرآن» متفق عليه وروى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده».
وقارئ القرآن، وحافظه، العامل به، يغبطه الناس، ويتمنون أن يكونوا مثله؛ روى البخاري وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل».
وحافظ القرآن، وصاحبه الملازم لقراءته، له بكل آية درجة يرقاها يوم القيامة، فانظر أيها القارئ- كم يرقى من الدرجات عن أبي سعيد الخدري قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة. اقرأ، وارق، واصعد فيقرأ، ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه» رواه الإمام أحمد في مسنده.
والقرآن أحد الشفعاء الذين تقبل شهادتهم يوم القيامة، روى أبو عبيد، عن أنس مرفوعا: «القرآن شافع مشفع، وماجد مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار».
وروى مسلم في صحيحه بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه».
وروى أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشراب بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه قال: فيشفعان».
وحافظ القرآن عن ظهر قلب، والعامل بما فيه يشفعه الله في أهله يوم القيامة؛ أخرج الترمذي، وابن ماجه، وأحمد من حديث عليّ: «من قرأ القرآن فاستظهره فأحل حلاله، وحرم حرامه أدخله الله الجنة، وشفعه في عشرة من أهل بيته، كلهم قد وجبت لهم النار. وحافظ القرآن الذي لا يغلط فيه، ولا يغيب عنه شيء مع السفرة الكرام البررة من الملائكة»؛ روى الشيخان، وغيرهما من حديث عائشة مرفوعا: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتعتع فيه، وهو عليه شاق له أجران» أما الأول فأجره أكثر، وأضعاف مضاعفة.
وما من أحد يقرأ شيئا من القرآن حين يأخذ مضجعه إلا حفظ حتى يصبح، أخرج أحمد في مسنده والترمذي في سننه من حديث شداد بن أوس: «ما من مسلم يأخذ مضجعه، فيقرأ سورة من كتاب الله تعالى إلا وكل الله به ملكا يحفظه، فلا يقربه شيء يؤذيه حتى يهبّ متى هبّ».
وفي حديث أبي هريرة وقصته مع الشيطان الذي كان يسرق من الزكاة وقوله له: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ أية الكرسي، لم يزل معك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدقك، وهو كذوب، ذاك شيطان» رواه البخاري.
والبيت الذي يقرأ فيه القرآن يكثر خيره، ويقل شره، روى البزار من حديث أنس مرفوعا: «البيت الذي يقرأ فيه القرآن يكثر خيره، والبيت الذي لا يقرأ فيه القرآن يقل خيره».
والقلب الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب؛ روى الإمام أحمد والترمذي بسندهما عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب» ومن ذا الذي يرضى أن يكون قلبه خرابا.
والقرآن هو الغنى الحقيقي، فمن رزقه رزق الغنى كله، ومن حرمه فلا غنى له وإن كان عنده مال قارون، روى الطبراني بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القرآن غنى لا فقر بعده، ولا غنى دونه».
وقارئ القرآن له بكل حرف حسنة؛ عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، ولا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في فضل القرآن، وفضل آيات أو سور خاصة كالفاتحة، وخواتيم سورة البقرة، والبقرة، وآل عمران، والكهف والإخلاص، والمعوذتين وغيرها.
فمن ذا الذي يسمع، أو يصل إليه كل هذا الترغيب الحبيب، والوعد الجميل ولا يسارع إلى حفظ القرآن وتفهمه، والعمل به، فلا تعجب إذا كان الصحابة تنافسوا في هذا المضمار الشريف، وكذلك تنافس فيه من جاء بعدهم، حتى حفظ الألوف، بل وألوف الألوف.
.العامل الثالث: الأمر بتعهد القرآن والتحذير من نسيانه:

وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وكل من يجيء من الأمة بعدهم بتعهد القرآن وممارسة قراءته حتى لا يتفلت منهم، وضرب لهم في ذلك المثل النوابغ، والكلم الجوامع الزواجر.
ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعاهدوا القرآن فو الذي نفس محمد بيده لهو أشد تفصيا من الإبل في عقلها».
ويزيد النبي صلى الله عليه وسلم الأمر توضيحا فيقول: «إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقّلة إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت» رواه الشيخان وفي الأمر بالتعهد والمواظبة عليه تحذير من نسيانه أو ذهابه.
وقد جاء الترهيب من نسيان القرآن أو في شيء منه وذم من يهمل حتى ينساه وذلك في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه منها إلا عدله. وما من رجل تعلم القرآن ثم نسيه إلا لقي الله يوم القيامة أجذم » ولأبي داود عن سعد بن عبادة مرفوعا «من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم» قال الحافظ وفي إسناده مقال.
وروى أبو عبيد بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة والبعرة يخرجها الرجل من المسجد وعرضت علي ذنوب أمتي، فلم أر ذنبا أكبر من آية أو سورة من كتاب الله أوتيها رجل فنسيها».
وروى أبو داود والترمذي وأبو يعلى والبزار وغيرهم من حديث ابن أبي داود، عن ابن جريج، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن، أو آية من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها»، قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وذاكرت به البخاري فاستغربه.
وقال الحافظ في الفتح: في إسناده ضعف. ولكن إيراده له في الفتح، وإيراد ابن كثير له في كتاب فضائل القرآن يدل على أنه ضعف محتمل يحتج به في مثل هذا.
«نسيان القرآن كبيرة»: وقد اعتبر كثير من السلف نسيان القرآن كبيرة من الكبائر لما قدمنا من الأحاديث وغيرها. وقد أخرج أبو عبيد رحمه الله من طريق الضحاك بن مزاحم موقوفا قال: ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب أحدثه؛ لأن الله يقول: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} ونسيان القرآن من أعظم المصائب.
وروي عن أبي العالية موقوفا، أي: عليه «كنا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن، ثم ينام عنه حتى ينساه». قال الحافظ ابن حجر:
وإسناده جيد، ومن طريق ابن سيرين بإسناد صحيح في الذي ينسى القرآن، كانوا يكرهونه ويقولون فيه قولا شديدا.
قال ابن كثير: وقد أدخل بعض المفسرين هذا المعنى في قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى * قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى} وهذا الذي قاله هذا وإن لم يكن هو المراد جميعه فهو بعضه؛ فإن الإعراض عن تلاوة القرآن وتعريضه للنسيان، وعدم الاعتناء فيه تهاون كبير وتفريط شديد نعوذ بالله منه، ولهذا قال عليه السلام: «تعاهدوا القرآن»، وفي لفظ«استذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم...» أي: أن القرآن أشد تفلتا من الصدور من النعم إذا أرسلت من غير عقال، ثم قال: ولهذا قال إسحاق بن راهويه وغيره: يكره للرجل أن يمر عليه أربعون يوما؛ لا يقرأ فيها القرآن، كما يكره له أن يقرأه في أقل من ثلاثة أيام.
.العامل الرابع: ارتباط بعض الوظائف الدينية والدنيوية بحفظ القرآن:

الإمامة في الصلاة بجميع أنواعها من المناصب الدينية الهامة، ولا يتولاها إلا أولوا الفقه والعلم، والفضل، وقد كانت وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته، ولم يتولها أحد في حياته إلا بإذن منه أو باستخلاف إذا سافر أو خرج في غزوة أو نحوها، وكذلك تولى الإمامة في الصلاة الخلفاء الراشدون من بعده رضوان الله عليهم، وتولاها الولاة، والأمراء في الأمصار، والأقاليم، وكذلك تولاها أمراء المؤمنين بعد الخلافة الراشدة.
وقد كان حفظ القرآن، واستظهاره، وإجادته، والعلم به، والتفقه فيه المرشح الأول لهذا المنصب الديني الخطير، فكان الأحق بها أقرأ الناس لكتاب الله.
روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما- أي إسلاما- ولا يؤمّن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه» قال الأشج في روايته مكان سلما: «سنا» أي: أكبرهم سنا.
وكذلك كان حفظ القرآن وفقهه من الأسباب المرشحة لتولي الإمامة العظمى كالصديق أبي بكر، والولاية والقضاء، وقيادة السرايا، والجيوش كأبي موسى الأشعري، وسالم مولى أبي حذيفة، وقد كان يحمل اللواء يوم اليمامة، فقيل له: إنا نخاف أن نؤتى من قبلك!! فقال هذه الكلمة التي تنم عن إيمان عميق، وقوة حفظ وفقه للقرآن الكريم: بئس أنا حامل القرآن إذًا.
نعم- والله- فما كان لحامل القرآن من أمثال سالم رضي الله تعالى عنه أن يفر، أو ينكص على عقبيه، أو لا يرغب عن الشهادة، وقد صدق فيما عاهد الله عليه فصار يتقدم باللواء، ويقاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ اللواء بيساره، فقطعت يساره، فاحتضنه بعضديه وهو يتلو قول الله تبارك وتعالى: {وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ...} وقوله:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: 144- 146].
وهكذا كان حفاظ القرآن وقراؤه، لقد كانوا أسبق الناس إلى نشر دعوة الإسلام، وأرغب الناس في الجهاد، والاستشهاد، وأهل البطولات والتضحيات والفداء، وما كان حفظ القرآن ليمنعهم من الخروج في السرايا والغزوات.
فأصحاب بئر معونة كانوا من القراء، وقد استشهدوا جميعا في سبيل الله بنفس راضية، فلا تعجب إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حزن عليهم حزنا شديدا، حتى لقد مكث شهرا يدعو على رعل وذكوان وعصية وهي القبائل التي غدرت بهم، وليس أدل على رضائهم بالشهادة مما رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نعى القراء قال:«إن أصحابكم قد أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم، فقالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك، ورضيت عنا، فأخبرهم عنهم فأنزل الله فيهم قرآنا كان يتلى: بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا». ثم نسخ بعد.
وحتى بعد الوفاة كان الفضل والتقدمة لحفاظ القرآن، وقرائه، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين والثلاثة من شهداء أحد في قبر واحد، وكان يسأل: «أيهم أكثر أخذا للقرآن» أي: حفظا له فيقدمه في اللحد، رواه البخاري، فمن ثم عني المسلمون عناية فائقة بحفظ القرآن وإجادته، فقد كان وسيلة من الوسائل للدرجات الدينية، والدنيوية، وقد روى الفاروق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين» رواه مسلم.
.العامل الخامس: تفرغ بعض الصحابة ومن بعدهم لحفظ القرآن وضبطه:

وقد تفرغ لحفظ القرآن، والتفقه فيه أناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم أهل الصفة وهم أضياف الله، وأضياف الإسلام، كانوا يحتطبون بالنهار، ويقومون الليل ويقرءون القرآن ويحفظونه، ويتدارسونه، ويعلمونه غيرهم، ولم يكونوا رضوان الله عليهم كسالى ولا خاملين، ولا ينأون بأنفسهم عن العمل والكدح كما يزعم بعض المتخرصين عليهم، وإنما كانوا إذا وجدوا عملا عند أحد عملوا، وإذا لم يجدوا احتطبوا، وأطعموا إخوانهم، وجعلوا همهم حفظ القرآن، وأعدوا أنفسهم للجهاد، فكان إذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد لبوا سراعا وليس هذا قولا حملني عليه حبهم، أو الدفاع عنهم وإنما هو ما جاءت به الروايات الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما، قصدت تجليته للرد على هؤلاء الذين يشنعون بهم، ويتجنون عليهم.
ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال:.... وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل، ولا مال، ولا إلى أحد، إذا أتته- أي: النبي صلى الله عليه وسلم- صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم، وأصاب منها، وأشركهم فيها، وكان أبو هريرة منهم.
وفي مرسل يزيد بن عبد الله بن قسيط عند ابن سعد: كان أهل الصفة ناسا فقراء، لا منازل لهم، فكانوا ينامون في المسجد لا مأوى لهم غيره.
وفي حديث عبد الرحمن بن أبي بكر؛ أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام ثلاثة فليذهب برابع...» الحديث.
وفي صحيح البخاري أيضا، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رعلا، وذكوان، وعصيّة، وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو، فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة فقتلوهم، وغدروا بهم.
وفي رواية ثابت عند مسلم: ويشترون الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن. وفي صحيح البخاري أيضا عن أبي هريرة قال: رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار، وإما كساء قد ربطوا- أي الأكسية- في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: يشعر بأنهم كانوا أكثر من سبعين، وهؤلاء الذين رآهم أبو هريرة غير السبعين الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بئر معونة، وكانوا من أهل الصفة أيضا لكنهم استشهدوا قبل إسلام أبي هريرة، وقد اعتنى بجمع أصحاب الصفة ابن الأعرابي، والسلمي، والحاكم، وأبو نعيم، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر؛ وفي بعض ما ذكروه اعتراض ومناقشة، لكن لا يسع هذا المختصر تفصيل ذلك.
وقال في موضع آخر من الفتح: ولم أقف على عددهم- يعني أهل الصفة- إذ ذاك وقد تقدم في أبواب المساجد، في أوائل كتاب الصلاة من طريق أبي حازم عن أبي هريرة: رأيت سبعين من أصحاب الصفة...
الحديث وفيه إشعار بأنهم كانوا أكثر من ذلك وذكرت أن أبا عبد الرحمن السلمي، وأبا سعيد بن الأعرابي، والحاكم اعتنوا بجمع أسمائهم، فذكر كل منهم من لم يذكر الآخر، وجمع الجميع أبو نعيم في الحلية، وعدتهم تقرب من المائة، لكن الكثير من ذلك لا يثبت وقد بين كثيرا من ذلك أبو نعيم، وقد قال أبو نعيم: كان عدد أهل الصفة يختلف بحسب اختلاف الحال، فربما اجتمعوا فكثروا، وربما تفرقوا إما لغزو، أو سفر، أو استغناء، فقلوا، ووقع في عوارف السهروردي أنهم كانوا أربعمائة.
أقول: والذي يظهر أنهم كانوا كثيرين، وأنهم كانوا يقلون ويكثرون بحسب اختلاف الأحوال كما قال أبو نعيم.
ومهما يكن من شيء فقد كان أهل الصفة ثروة عظيمة للقرآن الكريم وكانوا ركائز ودعائم لحفظ القرآن، وإشاعته، ونشره بين المسلمين، كما كانوا جند الله، وجند الإسلام، كلما سمعوا هيعة طاروا إليها، وهكذا تبين أنهم برءاء مما رموا به وكذلك كان المشتغلون من الصحابة بزراعاتهم، وتجاراتهم شديدي الحرص على الوحي، ولاسيما القرآن، وحفظ ما نزل منه؛ روى البخاري في صحيحه عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد- أي: ناحية- وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يوما، وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي، وغيره وإذا نزل فعل مثل ذلك... الحديث.
وهكذا نجد أنهم ما كان يشغلهم دينهم عن دنياهم، ولا تشغلهم دنياهم عن أمور دينهم، وحفظ كتاب ربهم، وسنة نبيهم، ولا عجب فهم رأس الأمة الخيرة، الوسط.
وقد اشتهر بإقراء القرآن من الصحابة سبعة: عثمان، وعلي، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري، كما ذكر الذهبي في طبقات القراء.
.التفرغ للقرآن بعد عصر الصحابة:
ثم تفرغ لحفظ القرآن، وإقرائه كثير من التابعين بالأمصار الإسلامية فمنهم من كان بالمدينة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وسليمان، وعطاء بن يسار، ومعاذ بن الحارث المعروف بمعاذ القارئ، وعبد الرحمن بن هرمز المشهور بالأعرج، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري القرشي عالم الحجاز والشام، وجندب بن مسلم، وزيد بن أسلم.
وكان بمكة: عبيد بن عمير، وعطاء بن أبي رباح، وطاوس بن كيسان اليماني ومجاهد بن جبر، وعكرمة مولى ابن عباس، وابن أبي مليكة.
وكان بالكوفة: علقمة، والأسود، ومسروق بن الأجدع، وعبيدة بن عمرو السلماني وعمرو بن شرحبيل والحارث بن قيس، والربيع بن خثيم وعمرو ابن ميمون وأبو عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش، وعبيد بن فضيلة، وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، والشعبي.
وبالبصرة: أبو العالية، وأبو رجاء، ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وقتادة بن دعامة السدوسي.
وبالشام: المغيرة بن أبي شهاب المخزومي صاحب عثمان، وخليفة بن سعد صاحب أبي الدرداء.
ثم تجرد أقوام لحفظ القرآن، وضبط قراءاته، وعنوا بذلك أتم عناية حتى صاروا أئمة في القرآن، والقراءة، يقتدى بهم، ويرحل إليهم.
فكان بالمدينة: أبو جعفر يزيد بن القعقاع، ثم شيبة بن نصاح، ثم نافع ابن أبي نعيم.
وبمكة: عبد الله بن كثير، وحميد بن قيس الأعرج، ومحمد بن أبي محيص.
وبالكوفة يحيى بن وثاب وعاصم بن أبي النجود، وسليمان بن مهران المعروف بالأعمش، ثم حمزة، ثم الكسائي.
وبالبصرة: عبد الله بن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وأبو عمر بن العلاء وعاصم الجحدري، ثم يعقوب الحضرمي.
وبالشام: عبد الله بن عامر، وعطية بن قيس الكلابي، وإسماعيل بن عبد الله بن المهاجر، ثم يحيى بن الحارث الذماري، ثم شريح بن يزيد الحضرمي.
.الأئمة القراء السبعة:

واشتهر من هؤلاء في الآفاق الأئمة السبعة:
1- نافع: قد أخذ عن سبعين من التابعين منهم: أبو جعفر، وابن كثير، وأخذ عن عبد الله بن السائب الصحابي.
2- وابن عامر: وأخذ عن أبي الدرداء الصحابي الجليل، وأصحاب عثمان رضي الله عنه.
3- وعاصم: وأخذ عن كثير من التابعين.
4- وحمزة: وأخذ عن عاصم، والأعمش، والسبيعي، ومنصور بن المعتمر، وغيرهم.
5- والكسائي: وأخذ عن حمزة، وأبي بكر بن عياش.
ثم انتشرت القراءات في الأمصار، وكثر القراء كثرة تجاوزت الحصر وصار حفاظ القرآن، المتقنون له، المتفرغون لإقرائه في الأقطار الإسلامية يعدون بألوف الألوف فلله الحمد والمنة على ما أنعم به، وعلى توفيق الأمة الإسلامية لحفظ كتابه.
العامل السادس اشتهار العرب بقوة الحافظة، وسيلان الأذهان، وصفاء الفطرة:
لقد كان العرب تغلب عليهم البداوة والأمية، فكان من الطبعي أن يكون معتمدهم في حفظ أنسابهم، وأشعارهم، وخطبهم، ومفاخرهم، ومفاخر آبائهم، وأجدادهم، وكل ما يتصل بهم على حوافظهم، وذاكراتهم فقد كانوا يعنون غاية العناية بالأنساب، والأحساب، والأشعار، والخطب ومن اعتز بشيء فلابد أن يسجله، ويقيده، ولما كانوا أمة أمية فقد قامت الحافظة والذاكرة مقام التسجيل بالكتابة فمن ثم كان من خصائصهم التي فاقوا بها كل الشعوب المعاصرة لهم قوة الحافظة، وسيلان الأذهان، وقد كان الواحد منهم كـ الشريط المسجل الذي لا يضل، ولا ينسى، وكان منهم من يحفظ أنساب قبيلته، وأشعارها، ومفاخرها: ومنهم من كان يحفظ أنساب القبائل كلها، وأشعار العرب وخطبهم، ومفاخرهم، ومثالبهم، وقد اشتملت كتب التواريخ والأدب على أمثال عجيبة في هذا.
وقد أعانهم على هذا ذكاء العقول، وصفاء النفوس، وسلامة الفطرة وقلة شواغل الحياة وتكاليفها، ولا يزال أهل البوادي والقرى إلى وقتنا هذا جل اعتمادهم على حوافظهم، وذاكراتهم تجلس للواحد منهم وهو أمي فيقص عليك من قصص الماضين من لقيهم، ومن لم يلقهم، الكثير من الأخبار، بل قد وجدنا من أهل القرى عندنا في مصر من يعرف تاريخ كل أسرة وعدد أفرادها، ومن مات منها، ومن بقي، وقد يذكر لك حكاية عن كل من تذكره له، وعمن غبر، وعمن لا يزال حيا، ومع هذا فهو أمي؛ لا يقرأ ولا يكتب، وما من أحد منا إلا وقد جلس إلى جده وجداته وسمع منهن الكثير مما حفظوا ووعوا فما أثر عن العرب ليس بالأمر المستغرب في تاريخ البشر.
وقد كان وجود هذه الخصائص العقلية والذهنية والنفسية عند العرب قبل الإسلام من المقدمات بين يدي النبوة المحمدية؛ لأن الله تبارك وتعالى يعلم أنه سيكلف هذه الأمة المحمدية بحفظ كتاب ربها، وسنة نبيها وأنهم هم أول من يقومون بحمل هذا الدين، ونشر رسالته، وتلقي الوحي قرآنا، أو سنة من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم من الذين سيضطلعون بهذا العبء حين يبلغونه إلى الناس كافة، والعرب هم حملة هذا الكتاب الكريم وهم الذين بلغوه إلى كل أبيض وأسود حتى صار الإسلام مقترنا بهم، وصدق المبلغ عن رب العالمين حين قال: «إذا ذلّ العرب، ذل الإسلام»رواه أبو يعلى. والله أعلم حيث يجعل رسالته.
.العامل السابع: العلم بأن القرآن هو أصل الدين ومنبع الصراط المستقيم:

القرآن هو أصل الدين، ومنبع الصراط المستقيم وهو الأصل الأول من أصول التشريع في الإسلام، الذي يرجع إليه في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام، وهو دستور المسلمين الأكبر، إليه يرجعون في الحكم والسياسة، والولاية، والإدارة، والاقتصاديات، والأخلاقيات، والأحلاف، والمعاهدات والمصالحات، والمهادنات ومعرفة حقوق الإنسان، وعلاقات الأفراد، والجماعات، فالقرآن هو الذي يضع الخطوط العريضة والقواعد الدقيقة، والأصول الأصيلة لكل ذلك، وإنه ليحسن في هذا المقام أن نذكر بالحديث الجامع في وصف القرآن الذي سقته في صدر الكتاب، روى الترمذي في سننه عن الحارث الأعور قال:
مررت في المسجد، فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى الناس قد خاضوا في الأحاديث! قال: أو قد فعلوها قلت: نعم، قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إنها ستكون فتنة» فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله قال: «كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد»- وفي رواية عنه- «ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط المستقيم» خذها إليك يا أعور. قال الترمذي: حديث غريب وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث: مقال: إن كتابا هذا بعض شأنه لابد أن يحفظه المسلمون، وأن يتنافسوا فيه: {وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ}.
إننا نجد في القديم والحديث أصحاب الدساتير، وأصحاب القوانين يعنون غاية العناية بدساتيرهم، وأصول قوانينهم، ويضعون لها التفاسير، والشروح فما بالك بالقرآن، وهو دستور الدساتير، والقانون الذي لا يدانيه قانون، والتشريع الذي لا يساميه تشريع وصدق الحكيم العليم: {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ومن ذا الذي يسمع من نبيه الأكرم هذا الحديث- وأمثاله كثير- ثم لا يحفظه عن ظهر قلب، ولا يفني عمره فيه؛ إن هذا الكتاب العظيم أحق ما يفنى فيه الشباب، وأجدر ما تنفق فيه الأعمار فلا تعجب إذا كان المسلمون حفظوه غاية الحفظ، وفهموه غاية الفهم، وتدبروه غاية التدبر، وهذا هو ما كان، وهذا هو ما شهد به تاريخ الأجيال، وارجع إلى كتاب التواريخ والرجال والطبقات تقف على ما يقنع العقل، ويثلج الصدر، ويطمئن القلب.
.العامل الثامن: إعجاز القرآن وسحر بيانه وعجائب أسلوبه وحلاوة كلامه:

وهذه خصائص للقرآن الكريم، وقد كانت من أعظم العوامل وأقوى الدوافع إلى حفظ القرآن الكريم.
والعرب كانوا أرباب الفصاحة، والبلاغة وفرسان البيان، فمن ثم كانت معجزة النبي العظمى القرآن الكريم، وكان العربي تستهويه الكلمة الفصيحة، ويكاد يخر ساجدا للكلام البليغ، ويملك ناصيته البيان المعجز، والأساليب العجيبة، ويجد في الكلام الفصيح البليغ حلاوة ليس بعدها حلاوة؛ لأن فيه إشباعا لغريزته، وإرضاء لفطرته، وتنمية لمواهبه.
وإليك ما ذكره ابن إسحاق في سيرته عن ثلاثة من فصحاء العرب وبلغائهم؛ روى عن الزهري قال: حدثت أن أبا جهل، وأبا سفيان، والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل منهم مجلسا، فيستمع منه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فجمعهم الطريق، فتلاوموا!! وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة، ثم انصرفوا..
حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا..
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذه عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد، فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها.. فقال الأخنس: أنا- والذي حلفت به- كذلك.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فقال له: يا أبا الحكم فما رأيك فيما سمعت من محمد فقال: ماذا سمعت! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء؛ فمتى ندرك هذه! فو الله لا نؤمن به أبدا؛ ولا نصدقه.
وهو يدل على استلذاذ العرب لسماع القرآن، استجابة لفطرتهم العربية، وإذا كان تأثير القرآن في أهل الشرك فكيف يكون تأثيره في أهل الإيمان، وهذا هو الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنما رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض ما قبله. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا!. قال: فقل في القرآن قولا يبلغ قومك أنك منكر له.
قال: وماذا أقول! فو الله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة. وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ويحطم ما تحته!!
فإذا كان هذا تأثير القرآن في مشرك عنيد حتى استشعر هذه الطلاوة وتلك الحلاوة، فكيف بمسلم عمر قلبه بالإيمان، وأشرقت نفسه بنور القرآن.
وفي الحديث الذي ذكرته آنفا: «لا يخلق على كثرة الرد». أي: لا يبلى ولا تسأمه النفوس مهما تكرر، وكلما كررته لا يزداد إلا حلاوة، وكلما أجلت فيه الفكر والنظر لا يزداد إلا طلاوة، ومن قرأ القرآن غضا طريا كما أنزل، وبخشوع، وتدبر استشعر هذه الحلاوة، فإنها تسري في لعابه ويجدها في لسانه.
وهذه الخاصية القرآنية لا تجدها عند قراءة أي كتاب آخر مهما كان، نعم قد يجد المسلم حلاوة، ولكنها دون هذه الحلاوة، حينما يقرأ كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولاسيما في جوامع كلمه التي رويت بلفظها، ولم يدخلها الرواية بالمعنى.
فمن ثم كانت هذه الخصائص البيانية، والأسلوبية، والوجدانية من أكبر العوامل المساعدة على مداومة تلاوته، وإجادة حفظه والمحافظة على نصوصه.
.العامل التاسع: تيسير الوسائل لحفظه في المساجد والكتاتيب والبيوت وغيرها:
ومن العوامل، أيضا تيسير الوسائل لحفظه فهذا المسجد الحرام، وهذا المسجد النبوي ومئات غيرهما في العهد النبوي، ثم ألوف، وألوف فيما بعد ذلك كانت عامرة بتلاوة القرآن، وبقراء القرآن المجيدين له، يتورعون عن أخذ الأجرة على تعليمه، ويرون في قيامهم بالإقراء حسبة لله منزلة ليس فوقها منزلة.
وقد ثبت في الصحيح أن الصديق بنى له مسجدا في بيته، فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن حتى كاد يفتتن بقراءته نساء المشركين وأولادهم، وكان قد أجاره ابن الدغنة فذهبوا إليه واشتكوا من فعل الصديق، فنقض ما بينه وبين ابن الدغنة، ورضي بجوار الله عز وجل.
وهؤلاء هم أهل الصفة بالمسجد النبوي، كان من مهماتهم قراءة القرآن وحفظه، وإقرائه لغيرهم، وقد قدمت طرفا من ذلك.
وكان الصحابة قليلا من الليل ما ينامون، ولاسيما في رمضان، فلا عجب أن كان يسمع لهم دوي بالقرآن بالليل كدوي النحل في المساجد والبيوت وكان النبي صلوات الله عليه وسلامه يشجعهم ويرغبهم في التلاوة.
روى أبو عبيد بسنده عن عقبة بن عامر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن في المسجد نتدارس القرآن، قال: «تعلموا كتاب الله واقتنوه» قال: وحسبت أنه قال: «وتغنوا به فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من المخاض» من العقل.
وكذلك كانت بيوت الصحابة ومن جاء بعدهم معاهد علم؛ ومدارس قرآن فما من بيت إلا ويقرأ فيه القرآن؛ ويتدارس؛ وسواء في ذلك الكبار؛ والصغار؛ والرجال والنساء.
وكذلك كانت توجد الكتاتيب لتحفيظ القرآن، وتعليم القراءة والكتابة؛ وقد أنشئت هذه الكتاتيب في عهد مبكر، وكان لها آثارها العظيمة في حفظ القرآن الكريم فقد ثبت وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من القادرين من أسرى بدر الفداء؛ ومن لم يكن قادرا قبل منه تعليم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة وطبعي أنهم كانوا يزاولون ذلك في مكان غير المسجد النبوي، لأن المشرك ممنوع من دخوله؛ ويدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس، قال: كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة فجاء غلام يبكي إلى أمه فقالت: ما شأنك قال: ضربني معلمي: فقالت: الخبيث يطلب بذحل بدر: والله لا تأتيه أبدا.
ثم أنشئت كتاتيب بعد ذلك؛ وكثرت كثرة خارجة عن الحصر حتى لا تجد مصرا أو بلدا إلا وفيه كتاب؛ وكتاتيب.
وقد كانت مصر- حرسها الله- بمدنها؛ وقراها، وكفورها ودساكرها ونجوعها غاصة بالكتاتيب؛ وفي هذه الكتاتيب حفظ ألوف الألوف القرآن الكريم، وقد كانت هذه الكتاتيب هي الروافد التي تمد الأزهر الشريف بألوف الطلاب كل عام؛ والكثيرون من هؤلاء صاروا أئمة في الفقه والفتوى؛ وفي التفسير؛ والحديث وعلوم اللغة واللسان، والعلوم العقلية والكونية، ومنهم من أثر في إصلاح حياة مصر، بل إصلاح حياة الدول الإسلامية والعربية دينيّا وسياسيّا، واجتماعيّا في العصر الأخير، وكان له الفضل الكبير في إزالة كابوس الاستعمار. والحكام الظالمين المستبدين كعرابي، ومحمد عبده، وسعد زغلول وغيرهم كثير.
وبعد هذا المطاف الطويل نصل إلى هذه النتيجة وهي أن القرآن الكريم توفر له من دواعي الحفظ له والمحافظة عليه ما لم يتوفر لكتاب قط لا في القديم، ولا في الحديث، ولا سماويّا، ولا أرضيّا والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
.وجوب إحياء الكتاتيب:

مما ذكرت يتبين أن الكتاتيب كانت تؤدي خدمة عظمى في سبيل تحفيظ القرآن الكريم، ولم تكن فائدتها تقف عند حد تحفيظ القرآن فحسب، بل كانت من أعظم الوسائل في تعليم القراءة والكتابة؛ لأن التحفيظ فيها لم يكن عن طريق التشافه والحفظ في الصدور فحسب، وإنما كان عن طريق كتابة جزء من القرآن خمس آيات أو عشر آيات، أو عشرين آية في اللوح كل على حسب استعداده، وعلى قدر طاقته، وطريقة الحفظ عن طريق الكتابة أولا ثم الحفظ لا تجعل الصبي ينسى شيئا من القرآن فيما بعد، ومن ثم نرى أن الكتاتيب كانت أيضا من أعظم وسائل إزالة الأمية، لأن الصبي لكي يكتب لوحه لابد من تعلمه القراءة والكتابة أولا، وقد كانت الكتابة في اللوح تمرينا عمليا على إجادة القراءة والكتابة، وقد أجدت الكتابة في الكتاب من هذا الطريق ولله الحمد والمنة.
وكذلك كانت تعلم فيها مبادئ الدين الإسلامي، ولا أنسى قط درس الدين من يوم الخميس كل أسبوع يلقننا فيه الفقيه أو العريف أركان الإسلام المذكورة في الحديث المشهور الصحيح «بني الإسلام على خمس».
ونسب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، وأبنائه وبناته، وفرائض الوضوء، وأركان الصلاة، والتشهد، ونحو ذلك، وكذلك كنا نتعلم فيها مبادئ الحساب، ولكن كان ذلك بقدر.
فلما أنشئت المدارس الأولية، ثم الإلزامية... بدأت الكتاتيب تضمحل شيئا فشيئا حتى أوشكت على الزوال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأحب أن أقول إن جمعيات المحافظة على القرآن الكريم، وإن كانت منتشرة في طول البلاد وعرضها. إلا أنها- والحق يقال- لم تغن غناء الكتاتيب في تحفيظ القرآن، لأن المنهاج المدرسي غلب عليها، وأصبح التحفيظ فيها عن طريق الحفظ في المصاحف، لا الكتابة في الألواح كما كان أسلوب التحفيظ في الكتاتيب، وتكاد تكون هذه الطريقة مندثرة اليوم في الديار المصرية بعد أن كانت هي المجلية والسابقة في هذا المضمار.
.طريقة تحفيظ القرآن الكريم في البلاد السودانية:

ومما يذكر بالاعتزاز والإكبار أن طريقة تحفيظ القرآن الكريم عن طريق الكتابة في الألواح والتصحيح على الفقيه، والعرض عليه مرارا، حتى يسمح له بالانتقال إلى كتابة جزء آخر من القرآن وحفظه، لا تزال في كثير من البلاد السودانية الشقيقة، ولا يزال كثير من إخواننا السودانيين يحتفظون بألواحهم للذكرى والتاريخ، ويعرضونها على الزائر لهم وهم في غاية الغبطة والسرور، ويعتبرون ذلك من المفاخر لهم.
وهناك كثيرون من أهل الصلاح والتقوى، والقرآن يجمعون المئات من الصبيان في كتاتيبهم التي يسمونها دار القرآن الكريم ويحفظونهم القرآن، ويتكفلون بهم طعاما، وسكنى، وكسوة، وقد زرت بعض هذه البيوت القرآنية وأنا بالجامعة الإسلامية بأم درمان أستاذا بها نسأل الله سبحانه أن تدوم هذه الكتاتيب القرآنية لتكون نارا محرقة لأعداء الله، وأعداء القرآن، ونورا يملأ قلوب حفاظ القرآن الكريم وطلابه، وأن يجزي القائمين عليها خير الجزاء، كفاء ما قدموه للقرآن.
.أمل ورجاء:

وقد كانت الديار المصرية زعيمة العالم الإسلامي في حفظ القرآن الكريم، وحذق قراءاته، وفي الكثرة الكاثرة من حفاظه وأهله، وكل ذلك كان بفضل الكتاتيب التي كانت تنتشر في كل مكان.
فهل يعمل القائمون على الشئون الدينية في الأزهر بكلياته ومعاهده، ومجمع البحوث الإسلامية. وفي وزارة الأوقاف. وفي المجلس الأعلى للشئون الإسلامية على إحياء هذه الكتاتيب ولاسيما في القرى التي كانت ولا تزال المورد الأكبر لحفاظ القرآن الكريم؛ وعلى النهوض بجمعيات المحافظة على القرآن الكريم. والإكثار من دروس تحفيظ القرآن الكريم وإنصاف القائمين على التحفيظ بها، وسد حاجاتهم حتى يقوموا بمهمتهم خير قيام.
إن ما يؤسف له أن المدارس التي كان يعتبر حفظ القرآن أساسا لدخولها كمدارس المعلمين أصبحت لا تشترط ذلك، ولم يبق اشتراط الحفظ إلا في الأزهر الشريف بمعاهده، وكلياته على تساهل كبير في هذا؛ فبعد أن كان الطالب الأزهري لا يلتحق بالفرقة الأولى الابتدائية إلا بعد حفظ القرآن كله وتجويده، أصبح الآن يكتفى بما دون حفظه كله، وقد يكتفي بالربع. وقد يكتفى بالأجزاء الثلاثة الأخيرة في المصحف وهي مصيبة من أعظم المصائب؛ لأنها تمس أصل الدين الإسلامي. ومنبع الصراط المستقيم.
إن في أوقاف المسلمين- وما أكثرها- التي وقفت على إنشاء الكتاتيب وتحفيظ القرآن الكريم ما يقوم ماليا بما يحتاجه إنشاء هذه الكتاتيب، والنهوض بجمعيات المحافظة على القرآن حتى تؤدي رسالتها كاملة.
بل في خزانة الدولة في بلد إسلامي عريق، وأهله مسلمون ما يقوم بذلك وإن الإنفاق في مثل هذا لخير ألف مرة مما ينفق بغير حساب في بعض الأبواب الأخرى، التي لا تفيد الشعب بقدر ما تضره.
بل في أريحية الخيرين من أبناء هذا البلد الإسلامي العريق ما يقوم بذلك، ولو دعوا دعوة جادة صادقة إلى هذا المشروع القرآني العظيم للبّوا سراعا عن طيب نفس.
لقد كان من التشريعات الموفقة في التعليم جعل الدين مادة أساسية من مواد التعليم يترتب عليها نجاح الطالب أو سقوطه، ولكن التشريعات لا تثمر ثمرتها إلا بالعمل، والتطبيق والتنفيذ ثم إن القدر المقرر حفظه على الطالب من القرآن الكريم شيء قليل مع التساهل في حفظه، ولو جعل لتحفيظ القرآن حصص خاصة لكان أجدى وأنفع، ولو كلف التلميذ في الابتدائي والإعدادي والثانوي بجزء من القرآن كل عام- وليس حفظ الجزء بالأمر المعجز- لوصل التلميذ إلى الكليات الجامعية والمعاهد العليا وقد حفظ قسطا كبيرا من القرآن ثم يتم الباقي في الجامعة.
وللإنصاف للتلاميذ أرى أنه لابد لكي يمكن تحقيق ذلك أن يزاح عن كاهلهم بعض ما يكلفون به من علوم لا تفيد عشر معشار ما يفيده القرآن الكريم في بناء الأمة دينيا، ودنيويا، وخلقيا واجتماعيا.
ترى أيها القارئ المنصف لو أن هذا الاقتراح نفذ في الأقطار الإسلامية والعربية لأرضت ربها ورسولها، ولكانت الأمة الإسلامية بحق خير أمة أخرجت للناس، إنها لآمال وأماني فهل تتحقق؛ ذلك ما نرجو، وما ذلك على الله بعزيز.
المصدر: نفساني



 

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:17 AM


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.
المواضيع المكتوبة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع رسميا